وكالة الأنباء العراقية المستقلة متابعة ,, في وقتٍ تتفاقم فيه أزمة المياه في العراق ويقترب موسم الشتاء من نهايته دون أمطار كافية، أعلن مرصد العراق الأخضر أن تركيا جدّدت رفضها إطلاق كميات من مياه نهري دجلة والفرات نحو الأراضي العراقية، بذريعة “عدم وضوح الاتفاق المبرم بين الجانبين”، وهو ما وصفه المرصد بأنه “محاولة جديدة للضغط على بغداد لتقديم تنازلات اقتصادية وسياسية”. تجدد الموقف التركي أعاد فتح ملف من أكثر الملفات حساسية بين البلدين، فالعراق يعتمد بنسبة تتجاوز 70 في المئة على المياه القادمة من تركيا، بينما تواصل أنقرة بناء السدود العملاقة ضمن مشروعها المائي المعروف بـ (GAP)، ما يقلص تدفقات المياه باتجاه الجنوب العراقي، ويهدد المدن الزراعية ومياه الشرب على حد سواء. تاريخياً، لم يُبرم العراق وتركيا اتفاقاً مائياً نهائياً ملزمًا، بل سلسلة تفاهمات ومذكرات منذ 1980 حتى 2025، ظلّت جميعها محاطة بالغموض في ما يتعلق بالحصة المائية لكل طرف. في نيسان 2024 وقّع البلدان اتفاقا إطاريا لإدارة الموارد المائية لمدة عشر سنوات، يتضمن تبادل بيانات وإنشاء لجان مشتركة، لكن الاتفاق لم يتضمّن أي التزام صريح بإطلاق كميات محددة من المياه إلى العراق. وفي تشرين الثاني 2025 جرى توقيع اتفاق جديد يتحدث عن “مشاريع تركية لتمويل بنى تحتية مائية داخل العراق”، تُموّل من عائدات نفطية عراقية، وهو ما أثار اعتراضات في بغداد لاحتوائه على بنود تمنح أنقرة صلاحيات تنفيذية مؤقتة في إدارة بعض المشاريع المائية. ويرى مختصون أن الصيغة الجديدة تُحوّل التعاون المائي إلى “شراكة اقتصادية” بدلاً من اتفاق توزيع حصص، ما يمنح تركيا نفوذاً اقتصادياً إضافياً داخل العراق مقابل تخفيف محدود لأزمة الجفاف. منذ صيف 2024 تراجعت مناسيب نهر دجلة إلى أدنى مستوياتها منذ عقدين، فيما فقدت بعض مناطق الجنوب جودة مياه الشرب بسبب ارتفاع الملوحة وتلوث المياه الراكدة. بحسب وزارة الموارد المائية العراقية، فإن تدفق نهر الفرات انخفض بنسبة 45 في المئة منذ بداية 2025، وهو ما يهدد الموسم الزراعي الشتوي بالكامل. تركيا تبرر تقليص الإطلاقات بكون العراق لم يلتزم ببناء خزانات تنظيمية ومشاريع ريّ حديثة لتقليل الهدر، وتقول إن “أي زيادة في الإطلاقات يجب أن تكون ضمن اتفاق واضح ومكتوب”. لكن مراقبين يرون أن الموقف التركي يرتبط بالضغط السياسي أكثر مما هو فني، وأن أنقرة تحاول استخدام الورقة المائية في مفاوضات أخرى تخص الأمن والاقتصاد والحدود، خاصة مع تصاعد الخلاف حول وجود عناصر حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية. في الاتفاق الأخير بين أنقرة وبغداد، برزت صيغة جديدة تُعرف إعلامياً بـ “النفط مقابل المياه”، تنص على تمويل شركات تركية لتنفيذ مشاريع سدود ومحطات معالجة داخل العراق مقابل ضمانات مائية غير محددة الكمية. مصادر اقتصادية عراقية قالت إن هذه الصيغة قد تزيد من التبعية الاقتصادية لأنقرة، إذ ستتحكم تركيا ليس فقط بمنابع المياه، بل أيضاً بشبكة إدارة المياه داخل العراق من خلال الشركات المتعاقدة. في المقابل، ترى الحكومة العراقية أن الاتفاق يمثل فرصة لجلب استثمارات تركية قد تساهم في تحديث منظومة الري ومعالجة الفاقد المائي الذي يقدَّر بأكثر من 30 في المئة سنوياً، مع تأكيدها أن المفاوضات المقبلة ستسعى إلى تحديد حصة عادلة وثابتة للعراق. سياسياً، يعتبر الملف المائي جزءاً من توازنات أكبر تشمل ملفات الأمن الحدودي والتجارة والطاقة. فأنقرة، التي تمتلك أوراق ضغط مائية وجغرافية، تسعى إلى مقايضتها بتسهيلات في ملفات أخرى، بينما تخشى بغداد أن يؤدي أي تنازل إلى مساس بسيادتها أو تحويل المياه إلى أداة تفاوض دائمة. تحليلات بيئية أشارت إلى أن استمرار انخفاض منسوب نهري دجلة والفرات قد يؤدي إلى فقدان 70 في المئة من الأراضي الزراعية في جنوب العراق خلال السنوات الخمس المقبلة إذا لم تُنفذ مشاريع مشتركة فاعلة. مرصد العراق الأخضر دعا الحكومة العراقية إلى التفاوض “بقوة وحنكة” ورفض أي تنازل على حساب كرامة البلاد، مطالباً بتوحيد الموقف الرسمي والشعبي في هذا الملف الحساس. ويرى خبراء أن العراق يحتاج إلى استراتيجية وطنية للمياه تتجاوز ردود الأفعال الموسمية، وتستند إلى أدوات تفاوضية مدعومة ببيانات علمية وخطط استثمارية واقعية. ويرى مراقبون، أن ملف المياه بين بغداد وأنقرة لم يعد مسألة تدفقات موسمية فحسب، بل تحوّل إلى ملف سيادي واستراتيجي يختبر توازن القوى في المنطقة. فبينما تواصل تركيا إدارة منابع دجلة والفرات وفقاً لمصالحها الداخلية، يسعى العراق إلى تثبيت حقوقه التاريخية في زمن الجفاف والمساومات. ومع غياب اتفاق واضح وملزم، يبقى مستقبل المياه في بلاد الرافدين معلّقاً بين السياسة والجغرافيا، وبين ضغوط الجفاف وحسابات النفوذ. المصدر: قسم الرصد والمتابعة في بغداد اليوم |