وكالة الأنباء العراقية المستقلة بغداد ,,
فؤاد العبودي
ليس ثمة ما هو أجمل من تشكيل البيت البغدادي القديم الذي كان يستوعب روح
الجماعة قبل أي شيء آخر.. هذا الاستيعاب قد حدده التصميم المعماري الذي برزت
مفردات جماله في الريازة والأفاريز والأطواق.
فالاسرة التي كانت تجتمع على الحلوة والمرة عبر حقب الزمان، أوحت الى
البنائين العراقيين (الاسطوات) أفكارا شملت تلك الروح الجماعية.
فتصميم كيان البيت المادي قد أخذ بالحسبان وعدم التفريط بأي فرد من أفراد
الاسرة، كان بمثابة السياج الوقائي للتغريب.
ان روح الجماعة تلتقي دائما مع عذوبة التصور لوحدة الاسرة، هذا التصور الذي
يتنامى عاطفيا دون خلل فيؤلف بالتالي من (الوحدة الصغيرة للام والأب) ليتسع مداها الى
بروز وحدات متفرعة دون الاخلال بما عليه وحدة الاسرة الصغيرة بحيث تظل فروعها
مشدودة بأحاسيسها الى الشجرة – الأصل. ان ذلك التصميم الرائع وعلى وسع فناءاته وغرفه
وطبقاته مرتبط أساسا بالفكر الهندسي المبدع للبناء العراقي، اذ لا يخرج التصميم عن
دائرة خيال الاسرة في النزوع الأمثل الى تكوين الإطار القوي الذي يضم داخله وحدة
المشاعر ذات الصلة المرتبطة بوحدة الروح والدم وعلائقها مع الوسط حين يكبر شيئا
فشيئا ليصبح صورة تشمل عناصر الانشاء النفسي وبما يفرز علاقة الانسان بالبيت من
جهة والبيت بالعالم الخارجي المحيط به من جهة أخرى.
اذ ينفرد في هذا الحال البيت الشعبي البغدادي عن سواه من البيوتات الشعبية
العربية بانفتاحه على الواسع على مفهوم الحرية، حين يتوضح ذلك من خلال الفناء الذي
يتوسط البيت ويمنح ساكنيه شعورا بالألفة ويدفعهم الى خلق جو الجماعة..
كما أنه يعطي للزائر أيضا حرية من نوع آخر، هي حرية الجلوس بعيدا عن
الاحراج كما هو حاصل الآن في تصاميم البيوت الحديثة التي لا تشعر بحرارة الدفيء الإنساني،
بل ان حرارة الأسمنت هي الطاغية على جو البيت.
وحرية جلوس الزائر في البيت البغدادي القديم تكمن في الغرفة القريبة من
الباب الرئيسي دون أن يكون الزائر مضطرا الى لاختراق تفاصيل البيت الأخرى وهذه
ميزة أخرى ومهمة من ميزات البيت القديم.
ان هذه الحرية هي سمة غالبة على الشخصية العراقية اذ لم يقتصر تطلعها على
حرية الفكر السياسي والاقتصادي والمعتقد الديني فقط، بل انها رسمت حدود حريتها حتى
في المكان وشكل تصميمه ومن ثم تنفيذ كيانه المادي.. الامر الذي تجد معه انعتاق
الروح في بيت تراثي شعبي أكثر من مما هي عليه في (الصناديق المغلقة على ذاتها) التي
تمثلها البيوت الحديثة.. والتي لا تتيح للآخر حرية التنفس وشم رائحة (اللبن المفخور)
فيما يخص انشائية البيوت القديمة وكذلك رائحة (الطابوق) الذي يطلق عليه ب (الجف قديم)
في البيوت التراثية الشعبية التي نجد نماذج منها في منطقة الصالحية البغدادية –
نهاية شارع حيفا من جانب الشواكة – والتي تشغل الآن منظمة السلم والتضامن وجريدة
الزوراء اثنين من بناياتها.
لقد كان الناس في سالف الأيام وعلى عفوية طباعهم يمتلكون مفاتيح عوالمهم
الخاصة بهم.. بحيث ترجموا انفتاحهم وخصوصيتهم الى طراز خاص لا يشبه أي طراز آخر في
الأزقة الشعبية العربية. واستطاعوا المزج بين الانفتاح والخصوصية بمقادير لا تسمح
بأدنى تفاوت قد يخل بالتوازن ما بينهما.
فالشناشيل المطلة على الزقازيق أو الشارع و بمواجهة الجيران واطلالة الشمس
لا يتصادم انفتاحها مع خصوصية شاغلي البيوت الذين يكونون أيضا بمواجهة العناصر
ذاتها مع توفر (مشروطية) الاحتراز الأخلاقي في احترام الخصوصيات.. فالجميع يعيشون
تحت سقف (الحياء العام) حيث يتمثل شكله المعنوي بالتجانس الاجتماعي الذي يربط
الوحدات الاجتماعية بإطار مجتمعي خال من التعقيدات، بل انه بهذا قريب جدا من روح
الجماعة التي توائم أصلا مع البيت البغدادي.
وبما أن فلسفة الاجتماع تؤكد على ان الانسان (خلق حرا) فان ضرورة إشاعة هذه
الحرية كانت في وعي صاحب البيت وبتواتر الوعي عند البناة أصبحت شرطا أساسيا من
شروط تصميم البيت الذي غالبا ما يراعى فيه بانفتاحه على السماء وأن يأخذ نمط طرازه
روحية الخلق الشعبي في مجال الهندسة والتصميم والابداع ليعبر عن نظرة أصحاب البيوت
بأهمية تكوينات الشكل والريازة.
لقد ابتعدت التصاميم الحديثة لهندسة البيوت عن روح التخلق بأشكال المعيار
الهندسي الشعبي (ان جاز التعبير) في إعطاء المسحة الشخصية للإنسان الذي سيشغل البيت..
وان الفصل ما بين حرية الفرد داخل بيته وتصميم البيت الذي كثيرا ما يأتي تصميمه
حاليا بعيدا عن تلك الروحية الجماعية يبعد الاستئناس بالكيان كشكل من أشكال
الاستقرار النفسي وبالتالي الحفاظ على وحدة العائلة ضمن مسار المنهج الاجتماعي والأخلاقي.
فالسعادة الحقيقية ليست في اكتمال البيت بل انها في الشعور الحقيقي بتمتع
الروح في جمالية التكوين وحريتها التي ينبغي اشاعتها دونما قيود. |